السفر والترحال

السفر والترحال

بقلم سيمون فتّال


 

الثقافة لا تفنى ولا تموت. فالعادات تُعمّر أكثر من الظروف التي أدّت إلى ولادتها.

 

Fig 1. Circassian cavalry regiment in Damascus in 1941

كانت الإمبراطورية العثمانية عبارة عن مساحة من االأرضي الشاسعة. تمتدّ من المغرب إلى أطراف بلاد فارس. من بلغاريا، بما في ذلك اليونان، إلى فوشين، كانت البلدان التي تُعرف اليوم بسوريا ولبنان والعراق ومصر وليبيا والجزيرة العربية والجزائر وتونس مجتمعة كلّها تحت الراية نفسها. وفي أوروبا وبلغاريا وألبانيا ورومانيا وصولاً إلى المجر.

كانت الإمبراطورية العثمانية وِحدة متكاملة. منحت هذه الهوية السكان المحليّين حريّة فريدة وأعطتهم راحة البال. حريّة التحرّك بحريّة والتماهي مع أي جزء من أجزاء هذا الكيان الشاسع.

كان الدين هو القاسم المشترك الأكبر. فغالبية السكان كانوا من المسلمين، وبشكل خاص من السنة المسلمين. وبالتالي، كان العرق يلعب دورًا ثانويًا أو لا دور له على الإطلاق. ففي تلك الحقبة، شكّل الدين إلى حدّ بعيد الهويّة الأساسيّة لأيّ شخص. شعر هؤلاء السكان بالتشابه والقرب من نظرائهم من مناطق بعيدة.

سنتحدّث عن الشعب السوري. في مرحلة نشأتي، كان العديد من أمّهات أصدقائي من أصول أجنبية. كُنّ في الغالب تركيّات. إنّما أيضًا سلاف من القوقاز. أو ألبان.

كانت النساء القوقازيات مرغوبات جدًا لأنهن يتمتّعن بصفات استثنائيّة يعتزّ بها الرجال في كلّ مكان، الصحّة، أولاً بالطبع، ولكن الأهم من ذلك هو أنّ نساء جبال القوقاز كنّ نساءً قويات، ويتمتّعن ببشرة فاتحة اللون وعيون زرقاء أو خضراء. وهي سمات تجذب أيّ رجل دمشقيّ أو حلبيّ.

Fig 2. Amman. 24th anniversary of Arab revolt under King Hussein & Lawrence, celebration Sept. 11, 1940. One of the Emir's Circasian [i.e., Circassian] bodyguards

كان رجال القوقاز يتمتّعون أيضًا بأهميّة بالغة بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية. قدم الشركس كتائب كاملة للجيش، تمامًا كالإنكشاريين، لكن قلّة نادرة تعرف هذه المعلومة. تزوّجت النساء من استطاع الحصول على موافقتهن. يصعب تخيّل كيفيّة تنقّل هذه الشعوب في الوقت الحاضر. قدّم المجتمع السوري حكامًا مدنيين وحكامًا عسكريين للإمبراطوريّة. كان الشبان يقصدون اسطنبول للدراسة في مدرستين رئيسيتين تابعتين للإمبراطورية وهما الأكاديمية العسكريّة، ومدرسة الشؤون الإداريّة، ويؤكّد هذا الواقع أنّ هذا المجتمع كان عالميًا بالفعل. عالميًا من حيث الثقافة والأعراف.

خضعت الإمبراطورية للحكم من قبل هاتين المدرستين. بعد تخرّج أحد الشباب من الأكاديميّة العسكريّة، إن التحق بالجيش، يمكن إرساله إلى شبه الجزيرة العربية أو ليبيا أو بلغاريا. يمكن أيضًا إرسال المدير المدني إلى أي جزء من الإمبراطورية أو غزة أو دمشق أو الجزائر العاصمة.

يعود هذا الترحال إلى جذور هذه الشعوب البدويّة. لم يتوقف الترحال أبدًا الذي انطلق منذ زمن بعيد من اليمن إلى أورفة، شمالًا. أمّا الطريق الآخر فانطلق من اليمن إلى المغرب غربًا. تنقّلت القبائل على طول هذه الطرق منذ الأزل. استقر البعض في محطّات مختلفة منتشرة على الطريق، وبنى بعضًا من أعظم المدن في التاريخ. وألّفوا ملاحم مثل سيرة بني هلال مثلاً. أو سيرة ذات الهمة. أو قصص ألف ليلة وليلة.

تنبثق إحدى الجذور الأخرى من القرآن الذي عزّز هذه الثقافة. ورد في القرآن أنّ العالم شاسع. هذه العبارة بحدّ ذاتها تشكّل دعوة إلى السفر. هناك أيضًا مثال الهجرة، بمعنى أنه إذا لم تناسبك الظروف هناك، فحاول في مكان آخر.

لذلك في دمشق، على الرغم من أن المجتمع كان مغلقًا بحيث كانت الروابط الاجتماعية والفعاليات الوحيدة تتمحور حول العائلة، إلا أنها كانت عالميّة بحكم بنيتها واسعة النطاق. تم استدعاء العسكر للخدمة في كافة المناطق في الإمبراطورية.

الكاتبة السورية العظيمة، ألفت الإدلبي، توضّح من خلال أفراد عائلتها ما أحاول وصفه.

Fig 3. Beirut 1914

كان والد جدّ جدّها من داغستان. استقر في دمشق وكُلّف بمهمّة قيادة الحجاج إلى مكّة لأداء فريضة الحج السنويّة. كانت هذه بالفعل مهمّة هامّة للغاية، حيث كان مسؤولاً عن سلامة الحجاج الذين يسافرون عادة مع أغراض ثمينة كثرة. في الواقع، كان على الحجاج في مكة شراء الهدايا لجميع أفراد عائلاتهم كما جرت العادة. هذه الثروة التي حملها الحجاج، يمكن أن تعرّضهم للاعتداء من قبل القبائل أو الأفراد، الذين سيحاولون نهبهم وهم على الطريق. ولذلك كان يجب أن يكون رجلاً عسكريًا وقائدًا مسؤولاً على حدّ سواء. كانت مغادرة قافلة الحجاج حدثًا ضخمًا جدًا. فقد شكّلت اللافتات والموسيقى والخيول والجِمال جزءًا من القافلة. وشهدت المدينة بأكملها رحيلهم. بقي مكلّفًا بهذه المهمّة لفترة طويلة جدًا. بقيت العائلة في دمشق وعاشت في المدينة وعرفوا بالداغستانيين.

كانت عائلة صديقتي الحميمة هالة الخوجة من الرحّالة. وكانوا ما زالوا في الخمسينيات من قبيلة حافظت على طريق الترحال السنوي من الجنوب إلى الشمال. واستقروا في الرقّة. كان والدها أميرًا وشغل لسنوات عديدة منصب وزير الزراعة. اعتادوا الذهاب -قبل أن يمنح الفرنسيون الإقليم الشمالي لتركيا، خلال فترة حكمهم- إلى أورفة. وهي حاليًا مدينة ساحرة في تركيا. حياتهم كانت عبارة عن رحلة مستمرة.

كان هذا الترحال ملحوظًا أيضًا في المجتمع المسيحي. في القرن الثامن عشر، وفقًا للمذكرات والمحفوظات، كان الكهنة السريان يسافرون بالسهولة نفسها. كانوا ينتقلون من أي مدينة إلى مقرّ الأبرشية للتشاور مع البطريرك وهو رأس الكنيسة الذي كان مقره في أنطاكية. كانوا يقصدون أيضًا جبال لبنان، أو دمشق، لتسليم الوثائق، أو إحضار بعضها. كما عُقدت الندوات السنوية. قرأت بعض هذه المحفوظات وأذهلتني سهولة السفر. وثباته. الأمر سيّان بالطبع بالنسبة إلى طائفتي الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك.

Fig 4. Damascus

الثقافة لا تفنى ولا تموت. فالعادات تُعمّر أكثر من الظروف التي أدّت إلى ولادتها. لهذا السبب حتى في خمسينيات القرن الماضي، كان الكثير من السوريّين يتكلّمون اللغة التركية عندما كانت والدتهم أجنبية. في تلك الفترة أضيفت إلى تركيا أو ألبانيا، أوروبا الشرقية حيث كانت تقع المدن الجديدة التي قصدها الشباب للدراسة.

كان جدي مفتش تبغ. جاب سوريا ولبنان على صهوة جواده، من حقل تبغ إلى آخر. تلقى والدي تعليمه في فيينا كمئات الشبان السوريين قبل الحرب العالمية الأولى. كان المصرفيون الألمان ورجال الأعمال النمساويون الذين استقروا في سوريا في زمن الإمبراطورية العثمانية يتزوجون أحيانًا فتيات سوريات، وكان هذا هو حال والدة جدتي.

Fig 5. Circassian lady

أمّا تجربتي الخاصة فقد اقتصرت على السفر كلّ أسبوع من دمشق حيث تقيم عائلتي، إلى بيروت، حيث كانت مدرستي الداخلية. ولأنّني كنت معتادة على التنقّل من مكان إلى آخر، لعبور الحدود، إذ كان هناك في تلك الفترة نقطة تفتيش عسكرية بين سوريا ولبنان (!) مع محطتين عند كلّ نقطة – اكتسبت القدرة على التنقل، وإحساسًا بالحرية - على الرغم من أن المدرسة الداخلية كانت سجنًا في حدّ ذاتها. لكن يسرّني القول أنّ هذا هو الجانب الجيد الوحيد الذي تميّزت به هذه التربية.

لا يمكنني الإشادة بما يكفي بالمزايا الرائعة التي قدمها هذا المجتمع لأبنائه. فلم يفرض عليهم أيّ التزامات سوى الأخلاقيّة منها. لم يكونوا مرتبطين بأي التزام. يمكن أن يذهب المرء إلى الحج ويبقى غائبًا لسنوات. كان يتزوج أثناء سفره، ويعود إذا أراد ذلك.

اختفى البعض، لكن الأغلبية احترمت التزاماتها التي قبلت بها. كانت الأسرة الموسّعة حاضرة لمراقبة كل هذه السلوكيات.

لا يزال البحث عن عروس شركسية سائدًا في لبنان حتّى اليوم، لكنّه بات نادرًا. أودّ الإضافة أنّ الحج (بالنسبة إلى المسيحيين والمسلمين - المسيحيين يقصدون سنويًا القدس والمسلمون يقصدون مكّة-) قد رسّخ في المجتمع فكرة الترحال. الترحال هو أيضًا إحدى ممارسات التقشف التي يختار بعض الصوفيين القيام بها.

إنه من سُبل البحث عن الله.

يجب ألا ننسى تأثير الأدب.

إن قصص "ألف ليلة وليلة"، التي سُردت مرارًا وتكرارًا في المقاهي في دمشق، أو في جامع الفنا في مراكش، وفيما بعد في الكتب، غنيّة بأمثلة عن السفر. يبدأ الأمر بغياب الملك. ثم يظهر الجنّ من العدم. يسافر السندباد عبر البحار. يذهب إلى الهند، إلى الصين. إلى جزر المالديف.

بدأ التبادل التجاريّ مع الصين والهند في عهد الإمبراطورية البيزنطية، ولم يتوقف أيضًا. يُطلق عليه طريق الحرير. القوافل المتوجهة من الجزيرة العربية إلى سوريا إلى الصين لم تتوقف أبدًا هي أيضًا. انطلق الطريق البحري أيضًا من شبه الجزيرة العربية إلى الهند والصين. نجد العود والقيثارة ضمن المجموعات اليابانية للمعابد الدينية التي تعود إلى القرن السابع. التجارة مع الصين وكافة المناطق الأخرى التي تقع في الوسط كانت تحت سيطرة العرب وقوافلهم، إن لم تتمّ على متن قواربهم. أراد الإيطاليون والإسبان القضاء على هذا الاحتكار للطرق التجارية - الذي انتهى في البحر الأبيض المتوسط ​​حيث تولّت القوارب الإيطالية نقل البضائع إلى أوروبا. إنه المُحفز الذي دفعهم إلى العمل على اكتشاف الطريق إلى الهند.

Fig 6. Ulfat Idilbi

سُلك هذا الطريق إلى الهند للمرّة الأولى قبل نشوء الإمبراطورية الرومانية، وجاءت التوابل واللبان من شبه الجزيرة العربية ونقلها الأنباط إلى البحر الأبيض المتوسط. هكذا أبصرت النور المدن النبطية كـ"الأولى" في شبه الجزيرة العربية، أو البتراء في الأردن. كانت المعابد في اليونان أو في مصر بحاجة ماسة إلى اللبان والتوابل. وُلدت مع هذه الأسفار المستمرة مجتمعات متعددة اللغات. كان من الطبيعي التحدث بلغات عديدة في أيّ أسرة. كتب الأفغان باللغة العربية وكذلك الفرس. كانت العربية لغة الدين والفلسفة.

فلنتذكّر قصّة ملكة أفغانستان، ثريا الترزي. وُلدت ثريا الترزي في دمشق في العام 1899. والدها من أفغانستان، ووالدتها سورية من حلب. كان والدها مؤذن في جامع حلب الكبير. عاشت ثريا في دمشق طوال حياتها ثم زارت أفغانستان لمقابلة الأمير أمان الله خان. فوقع الأمير في حبّها وتزوجا وأصبحت ملكة أفغانستان في العام 1926، وكانت الملكة المسلمة الأولى التي حضرت المناسبات الوطنية مع زوجها، كعروض الخيل أو الفعاليات الرياضية الأخرى. حازت على الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد لتعزيز تعليم الفتيات الشابات.

كان يمكن ركوب الحافلات في دمشق للذهاب إلى أفغانستان حتى بضع سنوات خلت.

ماذا عن اليوم؟

ظهرت الحدود والالتزامات مع بروز "الجمهوريات المستقلّة". اقتصر نمط الحياة عادة على البلد الحالي، وقد ظهر ذلك مؤخرًا، حيث اقتصر نمط الحياة أكثر على المدينة التي تعيش فيها. أصبح المجتمع يتمتّع بحريّة أقلّ وافتقد طابع الرحالّة. أعطى الاستعمار نمطًا للمجتمع. واستطاعت الطبقات الغنية التي يمكنها تحمّل تكاليف السفر إرسال شبابها للدراسة في الخارج وسرعان ما لحقت بهم الشابات؛ هذه المرّة إلى الدولة التي استعمرت ذلك البلد المحدد. على سبيل المثال، قصد العراقيون إنجلترا، بينما ذهب السوريون واللبنانيون إلى فرنسا.

تزوّج البعض نساء أجنبيات ولكن بنسبة أقلّ مقارنة بالأجيال السابقة أيّ قبل الحرب العالمية الأولى.

حتى صديقي أبو نذير، نافخ الزجاج، الذي ينتمي إلى طبقة تقليديّة، تزوج امرأة من طرابلس في لبنان. وعندما زارا كوسوفو تم الترحيب بهما كفردين من العائلة.

ولكن بعد ذلك اندلعت الحروب الحديثة، وتقلصت الرقع الجغرافيّة، كلّ يوم أكثر من اليوم الذي سبقه. أولًا من بلد إلى آخر، وبعدها من مدينة إلى أخرى، ثمّ داخل المدينة الواحدة، من الغرب إلى الشرق. نقاط تفتيش، ومخاطر، وقوانين، وتأشيرات، وقيود، وتأشيرة لمغادرة البلد، وتأشيرة أخرى للدخول مرّة أخرى، وأخرى لدخول البلد المجاور. وهلّم جرًا.

ماذا حلّ بهذا المجتمع؟ ماذا حلّ ببلداننا؟ أي نوع من الغضب والظلم حلّ علينا؟

Previous
Previous

أنامنيسيس [ذاكرة] الوقت الحاضر:وجهات نظر مُتقاطعة حول الطريق 181 للمخرجين إيال سيفان وميشيل خليفي